فصل: تفسير الآيات (54- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتقع السحب الطباقية عادة في المستويين الأدني والأوسط من نطاق الرجع، ونادرا ما تصل إلي مستوياته العليا، وعلي العموم يهبط مستوي تكون كل أنواع السحب عن هذه المستويات المتوسطة فوق القطبين، وتزيد عنها في المناطق الاستوائية؛ ويندر تكون السحب في نطاق التطبق لندرة الرطوبة فيه بصفة عامة.
ثالثا: {فيبسطه في السماء كيف يشاء}:
عندما يرسل الله تعالى الرياح فتدفع بكتلة من الهواء الدافئ الرطب فوق كتلة من الهواء البارد، أو تدفع بكتلة من الهواء البارد تحت كتلة من الهواء الرطب الدافئ، فإن الهواء الدافئ القليل الكثافة يطفو فوق الهواء البارد الكثيف في الحالتين، فيتمدد ويبرد، ويبدأ ما به من بخار الماء في التكثف علي هيئة قطيرات من الماء، فتتكون مجموعات من السحب المنخفضة غالبا، التي تنتشر انتشارا أفقيا في صفحة السماء علي هيئة طباقية تمتد إلي عشرات الكيلو مترات المربعة في المستوي الأفقي، وبسمك لا يتجاوز عدة مئات من الأمتار، ولذا تعرف باسم السحب الطباقية StratiformorLayeredClouds.
وهذه السحب الطباقية تدفعها الرياح في اتجاه أفقي عمودي علي اتجاه جبهتها، فتزودها بمزيد من بخار الماء، فيكون انتشارها أساسا في هذا الاتجاه الأفقي، ولكن نظرا لاختلاف درجات الحرارة في داخل هذه السحابة الأفقية الممتدة إلي عشرات الكيلو مترات يحدث بداخلها تيارات حمل خاصة عند اصطدامها ببعض تضاريس الأرض، ولذلك فهي عادة ما تكون من أكثر أنواع السحب توزعا في السماء، وتهيئة لإنزال المطر بإذن الله، ويكون إمطارها علي مساحات شاسعة من سطح الأرض؛ ولعل هذا هو المقصود من الوصف القرآني الدقيق الذي يقول فيه ربنا تبارك وتعالى: فيبسطه في السماء.
رابعا: {ويجعله كسفا}:
عندما تتكون السحب الطباقية يرسل الله تعالى الرياح لتلقحها بنوي التكثف مما يعين علي مزيد من نمو قطيرات الماء فيها، ويجعلها مهيأة لإنزال المطر بإذن الله.
وتتخلق السحب الطباقية عادة عند التقاء كتلة من الهواء الرطب الدافئ مع كتلة من الهواء البارد، أو عند اصطدام تلك الكتلة الهوائية الرطبة بتضاريس سطح الأرض؛ وعند ذلك يحدث بداخل تلك السحب الطباقية التي تنتشر أساسا في الاتجاه الأفقي بعض عمليات الرفع إلي أعلي مما يحدث تيارات حمل رأسية بداخلها تؤدي إلي تمزيقها إلي عدد كبير من القطع المتجاورة؛ ولعل هذا هو المقصود بقول الحق تبارك وتعالى: ويجعله كسفا أي قطعا.
خامسا: {فتري الودق يخرج من خلاله}:
تتكون السحب الطباقية عادة من قطيرات الماء في أجزائها السفلي، ومن قطيرات الماء شديد البرودة في أجزائها العليا حيث تصل درجة الحرارة إلي ما دون الصفر المئوي بنحو عشر درجات. ومن المعروف أن هذا النوع من السحب لا يتكون بداخله البرد ولا يصاحبه البرق والرعد.
وتظل قطرات الماء في السحب الطباقية تنمو بالتكثف أو بالتصعيد أو بهما معا إلي حد معين حين تتوقف عمليات التكثف.
ولكي تنزل قطرات الماء من خلال السحابة علي هيئة المطر لابد من نموها إلي أحجام وكتل تسمح بسقوطها بفعل بالجاذبية الأرضية، كما تسمح بتحملها لعمليات البخر في أثناء هذا النزول في الهواء غير المشبع بين السحابة وسطح الأرض بمتوسط سرعة في حدود سنتيمتر واحد في الثانية حتي تصل إلي سطح الأرض علي هيئة رذاذ أو مطر.
وفي العمر العادي للسحابة فإن قطرات الماء لا يمكنها أن تنمو بالتكثف وحده إلي الحجم المطلوب عشري الملليمتر في طول القطر علي الأقل ولكن يشاء الله تعالى أن يجعل من تصادم هذه القطرات والتحامها مع بعضها البعض في أثناء نزولها ما يعين علي الوصول إلي الحجم والكتلة المطلوبين لنزولها من السحابة ومرورها بسرعة أعلي في عمق الهواء غير المشبع تحت السحابة مما يعين علي تقليل كمية التبخر منها.
كذلك فإن في الأجزاء العليا من السحب الطباقية يمكن أن يتجمد بخار الماء مباشرة كما قد يتجمد عدد من قطيرات الماء شديدة البرودة علي هيئة بللورات من الثلج تنمو بسرعة مكونة رقائق من الثلج الذي ينزل في اتجاه الأرض فينصهر متحولا إلي قطرات الماء قبل الوصول إليها.
ولم يستطع العلم إلي يومنا الراهن أن يفسر عملية إنزال المطر من السحاب تفسيرا كاملا خاصة أن العديد من السحب تحمل الصفات نفسها وتوجد تحت نفس الظروف الطبيعية والمناخية ويمطر بعضها ولا يمطر البعض الآخر، وعلي ذلك فإن المطر يعتبر سرا من أسرار الكون لم يستطع الإنسان أن يفهمه تماما، وقد رده القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة إلي الإرادة الإلهية، ومن هنا جاءت الومضة النورانية السادسة في هذه الآية الكريمة التي يقول فيها ربنا تبارك وتعالى: فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون فالحمد لله الذي أنزل القرآن الكريم أنزله بعلمه والصلاة والسلام علي النبي الخاتم الذي تلقاه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه، ودعا بدعوته إلي يوم الدين. اهـ.

.تفسير الآيات (54- 57):

قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ منْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ منْ بَعْد ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ منْ بَعْد قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَليمُ الْقَديرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسمُ الْمُجْرمُونَ مَا لَبثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعلْمَ وَالْإيمَانَ لَقَدْ لَبثْتُمْ في كتَاب اللَّه إلَى يَوْم الْبَعْث فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْث وَلَكنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذينَ ظَلَمُوا مَعْذرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما دل سبحانه على قدرته على البعث بوجوه من الدلالات، تارة في الأجسام، وتارة في القوى، وأكثر على ذلك في هذه السورة من الحجج البينات، وختم لأنه لا يبصر هذه البراهين إلا مَنْ حسنت طويته، فلانت للأدلة عريكته، وطارت في فيافي المقادير بأجنحة العلوم فكرته ورويته، وصل بذلك دليلًا جامعًا بين القدرة على الأعيان والمعاني إبداء وإعادة، ولذلك لفت الكلام إلى الاسم الجامع ولفته إلى الخطاب للتعميم والاستعطاف بالتشريف، فقال مؤكدًا إشارة إلى أن ذلك دال على قدرته على البعث ولا وهم ينكرونها، فكأنهم ينكرونه، فإنه لا انفكاك لأحدهما عن الآخر: {الله} أي الجامع لصفات الكمال وحده.
ولما كان تعريف الموصول ظاهرًا غير ملبس، عبر به دون اسم الفاعل فقال: {الذي خلقكم} أي من العدم.
ولما كان محط حال الإنسان وما عليه أساسه وجبلته الضعف، وأضعف ما يكون في أوله قال: {من ضعف} أي مطلق- بما أشارت إليه قراءة حمزة وعاصم بخلاف عن حفص بفتح الضاد، وقوى بما أشارت إليه قراءة الباقين بالضم، أو من الماء المهين إلى ما شاء الله من الأطوار، ثم ما شاء الله من سن الصبي.
ولما كانت تقوية المعنى الضعيف مثا إحياء الجسد الميت قال: {ثم جعل} عن سبب وتصيير بالتطوير في أطوار الخلق بما يقيمه من الأسباب، ولما كان ليس المراد الاستغراق عبر بالجار فقال: {من بعد} ولما كان الضعف الذي تكون عنه القوة غير الأول، أظهر ولم يضمر فقال: {ضعف قوة} بكبر العين والأثر من حال الترعرع إلى القوة بالبلوغ إلى التمام في أحد وعشرين عامًا، وهو ابتداء سن الشباب إلى سن الاكتمال ببلوغ الأشد في اثنين وأربعين عامًا فلولا تكرر مشاهدة ذلك لكان خرق العادة في إيجاده بعد عدمه مثل إعادة الشيخ شابًا بعد هرمه {ثم جعل من بعد قوة} في شباب تقوى به القلوب، وتحمى له الأنوف، وتشمخ من جرائه النفوس {ضعفًا} ردًا لما لكم إلى أصل حالكم.
ولما كان بياض الشعر يكون غالبًا من ضعف المزاج قال: {وشيبة} وهي بياض في الشعر ناشىء من برد في المزاج ويبس يذبل بهما الجسم، وينقص الهمة والعلم، وذلك بالوقوف من الثالثة والأربعين، وهو أول سن الاكتهال وبالأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين، وهو أول سن الشيخوخة، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى.
ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها، وكان من الناس من يطعن في السن وهو قوي، أنتج ذلك كله- ولابد- التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة فقال: {يخلق ما يشاء} أي من هذا وغيره {وهو العليم} أي البالغ العلم فهو يسبب ما أراد من الأسباب لما يريد إيجاده أو إعدامه {القدير} فلا يقدر أحد على إبطال شيء من أسبابه، فلذلك لا يتخلف شيء أراده عن الوقت الذي يريده فيه أصلًا، وقدم صفة العلم لاستتباعها للقدرة التي المقام لها، فذكرها إذن تصريح بعد تلويح، وعبارة بعد إشارة.
ولما ثبتت قدرته على البعث وغيره، عطف على قوله أول السورة {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون} أو على ما تقديره: فيوم يريد موتكم تموتون، لا تستأخرون عن لحظة الأجل ولا تستقدمون، قوله: {ويوم تقوم الساعة} أي القيامة التي هي إعادة الخلائق الذين كانوا بالتدريج في ألوف من السنين لا يعلم مقدارها إلا الله تعالى في أقل من لمح البصر، ولذا سميت بالساعة إعلامًا بيسرها عليه سبحانه {يقسم المجرمون} أي العريقون في الإجرام جريًا منهم على ديدن الجهل في الجزم بما لم يحيطوا به علمًا: {ما} أي إنهم ما {لبثوا} في الدنيا والبرزخ {غير ساعة} أي قدر يسير من ليل أو نهار.
ولما كان هذا أمرًا معجبًا لأنه كلام كذب بحيث يؤرث أشد الفضيحة والخزي في ذلك الجمع الأعظم مع أنه غير مغنٍ شيئًا، استأنف قوله تنبيهًا على أنه الفاعل له: فلا عجب {كذلك} أي مثل ذلك الصرف عن حقائق الأمور إلى شكوكها {كانوا} في الدنيا كونًا هو كالجبلة {يؤفكون} أي يصرفون عن الصواب الذي منشأه تحري الصدق والإذعان للحق إلى الباطل الذي منشأه تحري المغالبة بصرفنا لهم، فإنه لا فرق في قدرتنا وعلمنا بين حياة وحياة، ودار ودار، ولعله بنى الفعل للمجهول إشارة إلى سهولة انقيادهم إلى الباطل مع أيّ صارف كان.
ولما وصف الجاهلين، أتبعه صفة العلماء فقال: {وقال الذين} وعبر بقوله: {أوتوا العلم} تنبيهًا على شكر من آتاهموه، وبناه للمجهول إشارة إلى تسهيل أخذه عليهم من الجليل والحقير، وأتبعه ما لا يشرق أنواره ويبرز ثماره غيره، فقال: {والإيمان} إشارة إلى تفكرهم في جميع الآيات الواضحة والغامضة مقسمين كما أقسم أولئك محققين مقالهم مواجهين للمجرمين تبكيتًا وتوبيخًا مؤكدين ما أنكر أولئك: {لقد لبثتم في كتاب الله} أي في إخبار قضاء الذي له جميع الكمال الذي كتبه في كتابه الذي كان يخبر به الدنيا {إلى يوم البعث} كما قال تعالى: {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [المؤمنون: 100] وأما تعيين مدة اللبث فأخفاه عن عباده، ولما أعلم القرآن أن غاية البرزخ البعث، وصدق في إخباره، سببوا عن ذلك قوله: {فهذا} أي فتسبب ما كنا نقوله وتكذبوننا فيه، نقول لكم الآن حيث لا تقدرون على تكذيب: هذا {يوم البعث} أي الذي آمنا به وكنتم تنكرونه، قد كان طبق ما كنا نقوله لكم، فقد تبين بطلان قولكم، وكنتم تدعون الخلاص فيه بأنواع من التكاذيب قصدًا للمغالبة، فما كنتم صانعين عند حضوره فاصنعوه الآن، تنبيهًا لهم على أنه لا فائدة في تحرير مقدار اللبث في الدنيا ولا في البرزخ، وإنما الفائدة في التصديق بما أخبر به الكتاب حيث كان التصديق نافعًا.
ولما كان التقدير: قد أتى كما كنا به عالمين، فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن، عطف عليه قوله: {ولكنكم كنتم} أي كونًا هو كالجبلة لكم في إنكاركم له {لا تعلمون} أي ليس لكم علم أصلًا، لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه، والتوصل إليه بأسبابه، فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك اليوم.
ولما كان قوله تعالى: {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [النساء: 173] في أشكالها من الآيات دالًا على أن هذه الدنيا دار العمل، وأن دار الآخرة دار الجزاء، وأن البرزخ هو حائل بينهما، فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى، سبب عن ذلك قوله: {فيومئذ} أي إذ تقوم الساعة، وتقع هذه المقاولة {لا ينفع} أي نفعًا ما {الذين ظلموا} أي وضعوا الأمور في غير مواضعها {معذرتهم} وهي ما تثبت عذرهم، وهو إيساغ الحلية في وجه يزيل ما ظهر من التقصير لأنهم لا عذر لهم وإن بالغوا في إثباته، والعبارة شديدة جدًا من حيث كانت تعطي أن من وقع منه ظلم ما يومًا ما كان هذا حاله، وهي تدل على أنه تكون منهم معاذير، وترقق كثير، وتذلل كبير، فلا يقبل منه شيء- هذا على قراءة الجماعة بتأنيث الفعل وهي أبلغ من قراءة الكوفيين بتذكيره بتأويل العذر، لأنه إذا لم ينفع الاعتذار الكثير لم ينفع القليل الذي دل عليه المجرد ولا عكس، ويمكن أن يكون قراءة الجمهور متوجهة للكفرة وقراءة الكوفيين للعصاة من المؤمنين، فإن منهم من ينفعه الاعتذار فيعفى عنه، ويشهد لهذا ما ورد في آخر أهل النار خروجًا منها أنه يسأل في صرف وجهه عنها ويعاهد ربه سبحانه أنه لا يسأله غير ذلك، فإذا صرفه عن ذلك رأى شجرة عظيمة فيسأل أن يقدمه إلى ظلها فيقول الله: ألست أعطيت العهود والمواثيق أن لا تسال؟ فيقول: بلى! يارب! ولكن لا أكون أشقى خلقك- الحديث، وفيه «وربه يعذره» فهذا قد قبل عذره في الجملة، ولا يطلب منه أن يزيل العتب لأن ذلك لا يمكن إلا بالعمل، وقد فات محله، فأتت المغفرة من وراء ذلك كله.
ولما كان العتاب من سنة الأحباب قال: {ولا هم} أي الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها {يستعتبون} أي يطلب منهم ظاهرًا أوباطنًا بتلويح أو تصريح أن يزيلوا ما وقعوا فيه مما يوجب العتب، وهو الموجدة عن تقصير يقع فيه المعتوب، لأن ذلك لا يكون إلا بالطاعة وقد فات محلها بكشف الغطاء لفوات الدار التي تنفع فيها الطاعات لكونها إيمانًا بالغيب، والعبارة تدل على أن المؤمنين يعاتبون عتابًا يلذذهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{اللَّهُ الَّذي خَلَقَكُمْ منْ ضَعْفٍ}.
لما أعاد من الدلائل التي مضت دليلًا من دلائل الآفاق وهو قوله: {الله الذي يُرْسلُ الرياح فَتُثيرُ سَحَابًا} [الروم: 48] وذكر أحوال الريح من أوله إلى آخره أعاد دليلًا من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله، فقال: {خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} أي مبناكم على الضعف كما قال تعالى: {خُلقَ الإنسان منْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] ومن هاهنا كما تكون في قول القائل فلان زين فلانا من فقره وجعله غنيًا أي من حالة فقره، ثم قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ من بَعْد ضَعْفٍ قُوَّةٍ} فقوله من ضعف إشارة إلى حالة كان فيها جنينًا وطفلًا مولودًا ورضيعًا ومفطومًا فهذه أحوال غاية الضعف، وقوله: {ثُمَّ جَعَلَ من بَعْد ضَعْفٍ قُوَّةٍ} إشارة إلى حالة بلوغه وانتقاله وشبابه واكتهاله، وقوله: {ثُمَّ جَعَلَ من بَعْد قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ العليم القدير}.
إشارة إلى ما يكون بعد الكهولة من ظهور النقصان والشيبة هي تمام الضعف، ثم بين بقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} إن هذا ليس طبعًا بل هو بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى في دلائل الآفاق {فَيَبْسُطُهُ في السماء كَيْفَ يَشَاء} [الروم: 48] {هُوَ العليم القدير} لما قدم العلم على القدرة؟ وقال من قبل {وَهُوَ العزيز الحكيم} [الروم: 27] فالعزة إشارة إلى تمام القدرة والحكمة إلى العلم، فقدم القدرة هناك وقدم العلم على القدرة هاهنا فنقول هناك المذكور الإعادة بقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه وَلَهُ المثل الأعلى في السموات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم} [الروم: 27] لأن الإعادة تكون بكن فيكون، فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم هاهنا أظهر، ثم إن قوله تعالى: {وَهُوَ العليم القدير} تبشير وإنذار لأنه إذا كان عالمًا بأعمال الخلق كان عالمًا بأحوال المخلوقات فإن عملوا خيرًا علمه وإن عملوا شرًا علمه، ثم إذا كان قادرًا فإذا علم الخير أثاب وإذا علم الشر عاقب، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب الذين هما بالقدرة قدم العلم، وأما في الآخرة فالعلم بتلك الأحوال مع العقاب فقال: {وَهُوَ العليم الحكيم} وإلى مثل هذا أشار في قوله: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] عقيب خلق الإنسان، فنقول أحسن إشارة إلى العلم لأن حسن الخلق بالعلم، والخلق المفهوم من قوله: {الخالقين} إشارة إلى القدرة، ثم لما بين ذكر الإبداء والإعادة كالإبداء ذكره بذكر أحوالها وأوقاتها.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسمُ الْمُجْرمُونَ مَا لَبثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)}.
قيل ما لبثوا في الدنيا غير ساعة.
وقيل ما لبثوا في القبور، وقيل ما لبثوا من وقت فناء الدنيا إلى وقت النشور {كَذَلكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ} يصرفون من الحق إلى الباطل ومن الصدق إلى الكذب.
{وَقَالَ الَّذينَ أُوتُوا الْعلْمَ وَالْإيمَانَ لَقَدْ لَبثْتُمْ في كتَاب اللَّه إلَى يَوْم الْبَعْث}.
قوله: {وَقَالَ الذين أُوتُوا العلم والإيمان} من الملائكة وغيرهم {لَقَدْ لَبثْتُمْ في كتاب الله إلى يَوْم البعث} ونحن نبين ما هو المعنى اللطيف في هاتين الآيتين، فنقول الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله، والموعد بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها، لكن المجرم إذا حشر علم أن مصيره إلى النار فيستقل مدة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر، والمؤمن إذا حشر علم أن مصيره إلى الجنة فيستكثر المدة ولا يريد التأخير فيختلف الفريقان ويقول أحدهما إن مدة لبثنا قليل وإليه الإشارة بقوله: {يُقْسمُ المجرمون مَا لَبثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} ويقول الآخر لبثنا مديدًا وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَقَالَ الذين أُوتُوا العلم والإيمان لَقَدْ لَبثْتُمْ في كتاب الله إلى يَوْم البعث} يعني كان في كاتب الله ضرب الأجل إلى يوم البعث ونحن صبرنا إلى يوم البعث {فهذا يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ} يعني طلبكم التأخير، لأنكم كنتم لا تعلمون البعث ولا تعترفون به، فصار مصيركم إلى النار فتطلبون التأخير.
{فَيَوْمَئذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذينَ ظَلَمُوا مَعْذرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)} أي لا يطلب منهم الإعتاب وهو إزالة العتب يعني التوبة التي تزيل آثار الجريمة لا تطلب منهم لأنها لا تقبل منهم. اهـ.